المثبتون للحكمة والتعليل
أولا: الحكمة والتعليل عند السلف:
يرى
السلف أن الله تعالي حكيم ولا يخلو فعل من أفعاله عن حكمة وغاية حميدة.[1]
والحكمة عندهم مقصودة له تعالي، يفعل لأجلها لأنه يحبها ويرضاها، وليست كما يرى
الأشاعرة وغيرهم من النفاة الحكمة مترتبة علي الفعل، وحاصلة عقيبه أي لا يفعل
لأجلها، لأنها لاتكون حينئذ حكمة بل يستحيل أن تكون حكمة وهي غير مقصودة بالفعل.[2]
يقول الإمام محمد عبده في هذا المقام: فهو يريد الفعل، ويريد ما يترتب عليه من
الحكمة، ولا معني لهذا إلا إرادة الله للحكمة من حيث هي تابعة للفعل. فمن المحال
أن تكون الحكمة غير مرادة بالفعل مع العلم. فيجب الاعتقاد بأن أفعال الله يستحيل
أن تكون خاليا من الحكمة.[3]
وقال الإمام
ابن القيم رحمه الله: "الله سبحانه حكيم، لا يفعل شيئا عبثا ولا لغير معني
ومصلحة وحكمة، هي الغاية المقصودة بالفعل. بل أفعال الله صادرة عن حكمة بالغة لأجل
الفعل كما هي ناشئة عن أسباب بها فعل، وقد دل كلامه وكلام رسوله علي هذا في موضع
لا تحصي.[4]
واستدلّ بآيات ورد فيها التصريح بلفظ الحكمة كقوله تعالي: حِكْمَةٌ بَالِغَةٌ فَمَا تُغْنِ النُّذُرُ [5] وقوله: وَأَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ
[6]
وقوله: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ
فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا وَمَا يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُو الْأَلْبَابِ[7]
فبهذه الأدلة، لا شكّ
أن معطي الحكمة لغيره يجب أن تكون حكيما.
والآيات
التي تدل علي اثبات تعليل أفعال الله بمعني أنه فعل كذا لكذا، وأنه أمر بكذا لكذا،
كقوله تعالي: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَمِنَ الْأَرْضِ
مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ
شَيْءٍ قَدِيرٌ وَأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحَاطَ بِكُلِّ شَيْءٍ عِلْمًا،[8] وقوله: رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ لِئَلَّا
يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَكَانَ اللَّهُ عَزِيزًا
حَكِيمًا،[9]
وقوله: إِنَّا أَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ
بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ وَلَا تَكُنْ لِلْخَائِنِينَ خَصِيمًا،[10]
وهكذا نرى أن الله سبحانه
يبين الغايات العظيمة التي خلق المخلوقات لتحصيلها. فكيف يصح بعد هذا أن ينكر أحد
أن تكون هذه المخلوقات لحكم مقصودة وغايات حميدة؟ بل إنما وجدت بمحض المشيئة والإرادة.
ثانيا: موقف المعتزلة:
يرى المعتزلة أنه لا يجوز أن يخلو فعل من
أفعاله تعالي من حكمة وغرض، وقالوا: "قد قام الدليل علي أنه تعالي حكيم،
والحكيم من تكون أفعاله علي إحكام وإتقان، ولا يصح أن يفعل فعلا جزافا لا لفائدة
وغاية، بل لابدّ أن يريد غرضا ويقصد صلاحا".[11]
وقالوا أن من يفعل لا لغرض يُعدّ عبثا،
والله تعالي منزه عن العبث. وإليكم ماقاله القاضي عبد الجبار المعتزلي:
"إن الله سبحانه ابتدأ الخلق لعلة،
نريد بذالك وجه الحكمة الذي له حسن منه الخلق، فيبطل علي هذا الوجوه قول من قال:
إنه تعالي خلق الخلق لا لعلة، لما فيه من إيهام أنه خلقهم عبثا، لا لوجه تقتضيه
الحكمة. وذالك – أي نقص من يفعل لا لغرض – ظاهر في الشاهد لأن الواحد إذا أراد
النيل من غيره قال عنه: إنه يفعل الأفعال لا لعلة ولا لمعني. فيقول هذا القول مقام
أن يقول: إنه يعبث في أفعاله، وإذا به المدح يقول: إن فلانا يفعل أفعاله لعلّة
صحيحة ولمعني حسن[12]"
ثالثا: الفرق بين
موقف المعتزلة و السلف:
رغم أن الجميع يثبتون
تعليل أفعال الله تعالي نجد في أقوالهم فرقا. ومن ذالك: أن الحكمة بينما هي عند
السلف صفة غير مخلوقة، فإنها عند المعتزلة مخلوقة منفصلة، وهي تعود علي العباد ولا
يعود إليه منها حكم.[13]
وقالوا: الحكيم لا يفعل إلاّ لينفع أو ينفع غيره، ولما تقدس تعالي عن الانتفاع
تعين أنه إنما يفعل لينفع العباد، فلا يخلو فعل من أفعاله من صلاح.[14]
وقد رد عليهم السلف في هذا القول، قالوا: إن الله حكيم والحكيم من له الحكمة فهي
صفة له، لأن إثبات المشتق يؤذن بثوت المشتق منه، إذا فالحكمة صفة له وصفاته تعالي
غير مخلوقة.
رابعا: موقف
الماتريدية[15]:
ذهب أكثر الماتريدية
إلي لزوم الحكمة في أفعال الله تعالي بمعنى أن الحكمة تترتب علي أفعاله تعالي علي
سبيل اللزوم بمعني عدم جواز الانفكاك تفضلا لا وجوبا. وإليكم ما قاله التفتازاني[16]
من الماتريدية يري تعليل بعض أفعال الله بالحكمة والمصالح في ذلك:
"الحقّ أن تعليل بعض الأفعال سيما
الأحكام الشرعية بالحكمة والمصالح ظاهرا، كإيجاب الحدود والكفارات، وتحريم
المسكرات وما أشبه ذالك، والنصوص أيضا شاهدة بذلك كقوله تعالي: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ[17]، مِنْ أَجْلِ ذَلِكَ كَتَبْنَا عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ
نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ
جَمِيعًا وَمَنْ أَحْيَاهَا فَكَأَنَّمَا أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعًا..[18]، ..فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَرًا زَوَّجْنَاكَهَا لِكَيْ لَا يَكُونَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ..[19].
ولهذا القياس حجة إلا عند شرذمة لا يعتدّ بهم، وأما تعميم ذلك بأنه لا يخلو فعل من
أفعاله من غرض فمحلّ بحث"[20]
[1] محمد ربيع هادي المدخلي، المرجع السابق، ص: 36
[4] ابن القيم، شفاء العليل، (القاهرة، مطبعة
السنة المحمدية) ص: 400 وقال: إن كمال الربّ تعالي وجلاله وحكمته وعدله ورحمته
وقدرته وإحسانه وحمده وحقائق أسمائه الحسني، تمنع كون أفعاله صادرة منه لا لحكمة
ولا لغاية مطلوبة. وجميع أسمائه الحسني تنفي ذالك وتشهد ببطلانه.
[12] القاضي عبد الجبار، المغني في أبواب العدل
والتوحيد، (الدار المصرية للتأليف والترجمة) ج 11 ص: 92-93
[13] فالمقصود بالحكمة عندهم: إحسانه إلي الخلق
ومراعاة مصالحهم، كما أن الحكمة في الأمر تعرض المكلفين بالثواب. ابن تيمية، الفتاوي،
(دار الوفاء للطباعة والنشر والتوزيع، 1998)، ج 8 ص: 89
[15] نسب هذا المذهب إلى رجل يسمى أبو منصور الماتريدي، الذي يعتبر هو
مؤسس هذا المذهب. وهو: محمد بن محمد بن محمود، أبو منصور الماتريدي السمرقندي،
وكان يلقب بإمام الهدى، وإمام المتكلمين، والإمام الزاهد، وغير ذلك من الألقاب.
[16] التفتازاني: هو مسعود بن عمر بن عبد الله
التفتازاني، نسبة إلي تفتازان من بلاد خراسان، توفي سنة 793 هـ. انظر الأعلام
للزركلى ج 8 ص: 113
[20] نقلا عن رسالة الدمهوري في تنزيه الله عن
الأغراض، ص: 26-27. بهذا يظهر أن الماتريدية قائلون بتعليل أفعال الله تعالي
بالحكم والمصالح كالمعتزلة، إلاّ أن المعتزلة يرون أنها معلّلة وجوبا، والماتريدية
يرون أنها معلّلة علي سبيل اللزوم، أي عدم الانفكاك تفضلا منه تعالي لا وجوبا.